loader-logo

الحرب في ليبيا: الجذور المحلية للصراع

وليد ماضي / أغسطس 2020                                                                                                          

الأحداث المتصاعدة في ليبيا والتي بدأت أوائل عام 2011 مع انطلاق ما عُرف إعلامياً بثورات الربيع العربي أبانت بوضوح عن صراعات أهلية ليبية -(جهوية ومناطقية وقبلية)- عكساً طابعاً تقليدياً صرفاً للمجتمع الليبي وأظهرت خللاً بنيوياً في علاقة المكونات الاجتماعية الليبية ببعضها من جهة  وكذلك في علاقة الدولة بالمجتمع من جهة أخرى، على النحو الّذي يفسّر التحوّل السريع للفوضى خصوصاً في ظل غياب قيادة سياسية انتقالية توافقية وغياب مشروع وطني يحمل رؤية مستقبلية واقعية تفي بإستحقاقات إعادة التأسيس .

الغرض من هذه الورقة هو تسليط الضوء على دور الإنتماءات القبلية والمناطقية في استمرار حالة الانقسام السياسي والإجتماعي وكذلك دراسة تأثير الجغرافيا السياسية المحلية في رسم خارطة الصراع السياسي طوال السنوات التسع الماضية.


مقدّمة :

كما هو الحال في كثير من الدول العربية والأفريقـــــية، تشكّل الطبيعة التقليدية للمجــتمع الليبي خاصية سوسـيولوجية فريدة لا يمكن غض الطرف عنها عند دراسة مســــــتويات وجذور الصراع الدائر داخل ليبيا.

فرغم مرور 69 عاماً على إعلان إستقلال ليبيا واتحاد أقاليمها التاريخية (طرابلس في الغرب ، برقة قي الشرق ، فزان في الجنوب)، لا زال مفهوم الشعب أو الأمة الواحدة  -(حسب التعريفات الحديثة للأمة)- التي تمتلك من الأسباب والمصالح المشتركة للبقاء معاً، غير موجود عملياً أو غير مؤطر بمشروع وطني له ملامح سياسية واقتصادية واقعية وملموسة[1].

وفي مقابل ضعف الهوية الوطنية الجامعة تمظهرت خلال فترات الحرب الأهلية الليبية الهويات الفرعية القبلية والجهوية والمناطقية والإثنية وبرزت كهويات فاعلة خلال فترات الصراع المسلّح.

لذا يمكن اعتبار ليبيا نموذجاً مثالياً لأزمة الدولة الوطنية في الحالة العربية الراهنة والتي عكست المنظومة السياسية الجديدة فيها امتداداً لفشل تراكمي لسياسات النظام الليبي السابق، فأخفقت في تأكيد الثوابت الوطنية الجامعة وتكريس العدالة بين المكونات الاجتماعية التي لم تجد سوى هوياتها الفرعية ملاذاً للحصول على حقوقها.

منهجية البحث في هذه الورقة تفترض أن الأزمة الليبية تختلط فيها العوامل الداخلية والخارجية، مع تأثير أكبر للعامل الخارجي، إذ أبانت التدافعات الإقليمية والدولية المتصاعدة على الساحة الليبيةعن نظام دولي فوضوي تتناقض خلاله المصالح والإتجاهات، مما يعقّد أي فرص ممكنة للتسوية المحلية.

 

لتفكيك التظافر بين العناصر الداخلية والخارجية المكوّنة للأزمة،ولإلقاء الضوء على حجم تأثير المحرّك الداخلي للصراع، فإن فهم بنية المجتمع الليبي وارتباطها بحالة الصراع يستوجب البحث من عدة زوايا كما يلي: 

 

  1. التعرف على الجغرافية السياسية المحلية وتطورها عبر المراحل التاريخية، وفهم طبيعة الخلافات بين الأقاليم الجغرافية التي صاحبت مسيرة التأسيس ومفاوضات كتابة الدستور قبل عام 1951[2].
  2. التعرّف على الخارطة الاجتماعية والتركيبة القبلية والإثنية للمجتمع الليبي وتوزيعها بين المناطق واصطفافاتها خلال مراحل الصراع منذ فبراير 2011[3].
  3. التعرّف على دور الأطراف الخارجية المتدخلة في الشأن الليبي الداخلي في تعزيز الاصطفاف المحلي وتعميق الإنقسام بين الأقاليم والمناطق والقبائل.
  4. التعرّف على طبيعة الاقتصاد الريعي النفطي ودوره في تعزيز العقلية الغنائمية تجاه مقدرات الدولة والمال العام وخلق حالة من التسابق والمغالبة على أساس مناطقي وقبلي وإثني.

لكل نقطة من النقاط الأربعة المذكورة آنفاً أهمية خاصة في دراسة البعد السيوسيولوجي للأزمة الليبية؛ لذا فكلٍ منها يستوجب إفراد مساحة مستقلة من البحث والدراسة؛ رغم ذلك سنقتصر في هذا المبحث على دراسة وفحص النقطة الثانية المتمثّلة في إظهار تضاريس الخارطة الاجتماعية والقبلية في الصراع الأهلي في ليبيا منذ عام 2011 وسنترك النقاط الأخرى لمشاريع بحثية قادمة ستأتي مكمّلة لهذه الورقة في مراحل لاحقة.  

كما لا تسع المساحة هنا تناول بعض المفاهيم النظرية كالقبيلة وتعريفها لغوياً واصطلاحياً[4] أو المفاهيم المتعلّقة بمقومات المواطنة في الدولة الوطنية الحديثة وسنلج مباشرة إلى الخارطة الاجتماعية (القبلية والمناطقية) وتقاطعاتها السياسية في الحالة الليبية.

 

التجاذبات القبلية والمناطقية والجهوية خلال الإنتفاضة الليبية

خلال انتفاضة فبراير 2011 وبعدها ظهرت مؤشرات كثيرة عن الحالة الليبية التقليدية أو البدائية واتضحت ملامح تصحّر مؤسسي وتفكك اجتماعي تمثّلت في التعصب والتغوّل الجهوي والقبلي والمناطقي وحروب الثأر والحزازات بين المدن والقرى والقبائل.

وقبل البدء بسرد بعض الأمثلة عن الحالة القبلية والمناطقية وتمظهراتها في الصراع الليبي بعد انتفاضة فبراير، يجدر التنويه بأنه طيلة أربعة عقود من حكم النظام السابق كان التوظيف السياسي والأمني للقبيلة نهجاً أصيلاً  وأداة من أدوات السيطرة والتحكّم.

إذ عمد النظام الليبي السابق خلال فترة حكم القذافي إلى إحياء البنية القبلية وثقافة الزعامة القبلية ووظفها لمصلحته ولاعتباراته الأمنية واستخدم القبائل والمناطق ضد بعضها البعض دون النظر لعواقب الآجلة لهذا النهج. ولا يخفى على الدارسين والمتابعين للشأن الليبي ملامح هذه السياسة التي انتهجها النظام السابق وكيف قام خلال فترة حكمه بالمراهنة على القبائل الكبيرة والتحالف معها بتمييز بعض أبناءها وإغراءهم بالسلطة والثروة والنفوذ.

ولا يخفى أيضاً كيف حاول نظام القذافي قُبيل انتفاضة فبراير تحشيد القبائل –(بتنظيم حملة لقاءات مكثفة بين العقيد القذافي وزعامات قبلية لإظهار الولاء لنظامه)- واستغلال حضورها السياسي واللعب بورقة الخلافات القبلية التاريخية فظهرت قبائل ومناطق مساندة للدولة والنظام وقبائل ومناطق أخرى معارضة، فتحمّلت انتفاضة فبراير منذ بواكيرها هذا العبء ونشأ الانقسام الاجتماعي البنيوي حولها بين المؤيدين للنظام السابق والمعارضين له على أسس اجتماعية قبلية ومناطقية. 

بعد بدء الانتفاضة في فبراير 2011 وسيطرتها على معظم إقليم برقة، وبعد انخراط مدن بعينها من الغرب الليبي في أعمال الانتفاضة وأهمها مدن الزنتان ومصراته والزاوية وجبل نفوسة، عَمِد نظام القذافي إلى عزل هذه المدن وتوظيف الوحدات العسكرية في المدن والمناطق المجاورة لها لإيقاف المد الثوري لما عُرف بموجة الربيع العربي.

 وبالتالي أصبحت هناك خطوطاً للمواجهة المسلحة تعبّر في ظاهرها عن معركة حول الولاء للنظام أو معارضته بينما هي في الواقع خطوطاً للصدام بين مناطق وقبائل بعينها وحزازات قبلية قديمة قام القذافي بإحياءها مثل ما حدث بين الزاوية و ورشفانة وبين مصراته وتاورغاء وبين الزنتان والمشاشية مما أدّى إلى شروخ اجتماعية عميقة.

وبناء عليه اتخذ الصدام طابع الصراع بين المكونات الاجتماعية وبالتالي ظهرت تشكيلات عسكرية بأسماء المدن والمناطق وأصبح لكل منطقة مجلساً عسكرياً قوامه بشكل حصري من أبناء المنطقة أو القبيلة واستمرت حالة عسكرة المناطق والقبائل إلى مراحل متقدّمة.

وبعد اكتمال  إسقاط النظام آواخر عام 2011 وانهيار مبدأ احتكار العنف وعدم إيجاد البديل الأمني الّذي يملأ الفراغ ويمثل الدولة؛ تحوّل الاقتصاد الريعي القائم على عوائد النفط المباشرة إلى مضمار للتسابق الغنائمي مما ساهم بشكل كبير في الانهيار الاجتماعي.

فلكي تنال حصتها من الغنيمة، أصبحت القبائل والمدن والمكونات الإجتماعية والإيديولوجية تتصارع وتتنافس غرائزياً وعلى أساس غير وطني وضاع بالتالي مفهوم المصلحة المشتركة التي تضمن بقاء الشعب والمجتمع موحداً. كما أصبحت موارد الدولة تُدار بقوة السلاح وأصبح تشكيل المجموعات المسلحة وسيلة للسطو على موارد الدولة. وبذلك برزت ظاهرة الميليشيات المسلحة التي كان الكثير منها لا يخفي انتماءاته القبلية والمناطقية بل يستقوي بها في مضمار السبق على الغنيمة.


مسار  سياسي انتقالي مضطرب

استمرت التجاذبات الجهوية والمناطقية والقبلية خلال المرحلة الانتقالية الأولى (2014-2011) دون أن  تجد مشروع وطني انتقالي يخفف من آثارها، بل كانت هذه النعرات أحياناً من الأدوات السياسية التي تستخدم للمغالبة بين السياسيين الجدد كما ظلت ملاذاً للحماية لأبناءها في مقابل غياب مؤسسات الدولة.

ففي ظل وجود التهديد الأمني الّذي تمثّل في غياب مبدأ احتكار العنف وغياب مؤسسات الجيش والشرطة وانتشار السلاح بشكل واسع بين المواطنين وفي ظل شكاوى من نظام اقتصادي مركزي ريعي رخو قائم على المغالبة المناطقية، تعمّق الانتماء الجهوي والمناطقي والقبلي في مقابل انحسار تام لأي مشروع وطني جامع يعبّر عن الاحتياجات الواقعية للمكونات الاجتماعية والمناطقية، واتضح إنفصام المسار السياسي عن الواقع الأجتماعي وفشل السياسيين في إعادة تأكيد الثوابت أو استيعاب مهددات الجماعة الوطنية بعد فبراير 2011 .

ورغم تنظيم انتخابات عامة في البلد في يوليو 2012 بناء على إعلان دستوري محل جدل وتشكيل مؤتمر وطني عام منتخب–( وسط تجاذبات جهوية ومقاطعة من التيار الفيدرالي في إقليم برقة على خلفية توزيع مقاعد المؤتمر)- عجز المشروع السياسي الانتقالي عن تشكيل سلطة مركزية قادرة على توحيد الصفوف وبعث الاطمئنان لدى كل المكونات الاجتماعية كما عجز عن خلق أرضية للحوار حول القضايا الجوهرية  أو السيطرة على الوضع الأمني المتدهور، عوضاً عن ذلك تم اجترار صراعات ومماحكات سياسية على أسس إيديولوجية ساهمت في تغييب الخلافات الحقيقية بين أبناء الكيان الإجتماعي والسياسي الليبي.

استمرت الأوضاع المخلخلة حتى اندلاع العنف بانطلاق عمليتي الكرامة وفجر ليبيا حيث انهار المسار السياسي الانتقالي تماماً وأضحت الشرعية السياسية ذاتها محل خلاف وبرز الانقسام الجهوي بوضوح حول قضيتي (الإرهاب وتعريفه ، وطريقة توزيع الموارد).  سعت البعثة الأممية في تلك الأثناء وبعض الوسطاء من السفراء الأوروبيين إلى ترميم المسار السياسي، فأدارت البعثة حواراً سياسياً انتقائياً أفضى إلى اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015 وكان موضعاً للنقد من كثير من المراقبين.

خلال إدارتها للحوار بين المؤتمر الوطني العام (مقره طرابلس غربي البلاد) ومجلس النواب المنتخب (مقره طبرق شرقيها) تجاوزت البعثة الأممية استحقاقات لا غنى عنها لإحياء الكيان السياسي الليبي الذي انقسم أمنياً ولم يعد له وجود من الناحية العملية، وافترضت الحل في تشكيل حكومة وحدة وطنية دون محاولة إيجاد أرضية مشتركة من الثوابت ينطلق منها هذا المشروع الانتقالي.

وبالفعل تم تسمية حكومة عن طريق المبعوث الأممي دون أن يكون لها مشروع يتوافق مع احتياجات المرحلة، والسبب هو أن أجندة الحوار السياسي ذاتها افتقرت للشفافية ولم تعالج أي استحقاق أو تناقش القضايا الجوهرية التي من خلالها يمكن بناء عملية سلام.  

أهم القضايا المغيّبة هي قضية الإرهاب المتمدد إقليمياً وتحديده بشكل واضح والوقوف على أرضية مشتركة لمكافحته. القضية الثانية هي كيفية إدارة الموارد الطبيعية في ليبيا بعيداً عن نظام السلة المركزية. القضية الثالثة هي الخلافات التاريخية بين الأقاليم الجغرافية، وأخيراً مسألة التغوّل المناطقي والقبلي والحزازات بين المدن والمناطق ومصير مشروع العدالة الانتقالية[5].

افتقر الحوار السياسي لأجندة واقعية تعالج قضايا الخلاف المذكورة بشكل يتوافق مع الخصوصية الاجتماعية الليبية (الجهوية والمناطقية)، كما افتقر أيضاً لطريقة أختيار شفافة للمشاركين في الحوار إذ لم يكّ هناك ممثلين حقيقيين لأطراف النزاع أو ممثلين مباشرين للمكونات الاجتماعية الجهوية والمناطقية كما حدث في مفاوضات تأسيس الدولة الليبية المعاصرة قُبيل عام1951 (بين برقة وطرابلس وفزان)، أو المكونات الاجتماعية التي عُرفت برفضها للتغيير الّذي وقع في فبراير 2011 ومنها قبائل كُبرى في الغرب الليبي مثل ورفلة وترهونة.  

بدلاً من ذلك تم إشراك بعض الأحزاب السياسية الصورية وبعض أعضاء مجلس النواب المنتخبين في يونيو 2014 -(كان بين المشاركين في الحوار عدد من النواب المنتظمين وعدد آخر من المقاطعين)- وشخصيات أخرى مستقلة لرسم صورة غير حقيقية عن حوار سياسي ممثّل لأطياف متعدّدة.

هذه المقاربة كانت بعيدة عن الواقع الاجتماعي الليبي أو واقع الصراع بعد فبراير 2011. لذا لم يخرج الحوار بأي ميثاق لصناعة ثوابت مشتركة تعزّز فكرة الامة الواحدة، ولم يؤسس الحوار لسلام طويل الأجل أو حتى قصير الأجل بل خرج بمحاصصة جهوية شكلية في الحكومة المركزية وتوزيع للمصالح كانت أشبه بترضيات شخصية أو فئوية بعيداً عن جوهر المشكلة، فكان اتفاق الصخيرات مجرّد تسوية شكلية بين فئات محددة من الطبقة السياسية الجديدة بالإضافة إلى مجموعات المصالح القديمة التي برزت بعد فترة وجيزة من انهيار النظام السياسي السابق وتموضعت مكانه في مفاصل القرار السياسي والاقتصادي المركزي.

 

الصراع المسلح بعد 2014 وتقاطعاته القبلية والمناطقية:

في مايو 2014 أطلق المشير خليفة حفتر عملية الكرامة التي مثّلت إلتقاء مخاوف فئات مختلفة من إعلاميين وناشطين وضباط في الجيش ممن يشعرون بالتهديد على إثر موجة من الإغتيالات ضربت مدينة بنغازي حينها. ورغم أن القبائل البرقاوية الكبيرة شكّلت تحالفاً مع الضباط المحبطين في الجيش النظامي[6]، إلا أنه كان واضحاً أنه بانطلاق عملية الكرامة انقسمت القبائل والمناطق شرقاً وغرباً حول مفهوم الإرهاب وتعمّق التفكك الاجتماعي والاصطفاف الجهوي والعرقي.

ضف إلى ذلك الإنقسام السياسي والاجتماعي والجهوي الذي ترتب على عملية فجر ليبيا التي انطلقت في شهر يوليو 2014 ورفض على إثرها قادتها ترتيبات تسليم السلطة إلى البرلمان المنتخب في يونيو 2014 وبالتالي أصبحت الشرعية السياسية محل جدل وانقسمت المؤسسات الرسمية بين حكومتين وبرلمانين شرقاً وغرباً.  

شكّلت عملية فجر ليبيا تحالف مناطقي/ أيديولوجي لافتكاك مطار طرابلس الدولي من قبضة كتائب القعقاع والصواعق المحسوبة على مدينة الزنتان. ترتّب على ذلك السيطرة الكاملة على طرابلس وإعادة المؤتمر الوطني العام وتشكيل حكومة الإنقاذ الوطني المدعومة من كتائب فجر ليبيا.

بالأخذ في الاعتبار نتائج عمليتي الكرامة وفجر ليبيا، بالإمكان القول بأن عام 2014 كان نقطة فاصلة في تاريخ السلم والتعايش الاجتماعي في ليبيا، سواء بين برقة وطرابلس من جهة أو على المستوى المحلي بين المكونات الاجتماعية والقبلية في كل إقليم على حدة. وفي ظل انقسام مؤسسات السلطة والتنازع على الشرعية السياسية وفشل كل المبادرات السياسية وامتداد المعارك إلى 2019 يمكن لاحقاً اعتبار معركتي الكرامة وفجر ليبيا أحداثاً مفصلية في تاريخ الكيان السياسي الليبي الموحّد.

ففي الأحداث الأخيرة التي انطلقت شهر أبريل 2019 بالهجوم العسكري على طرابلس تمظهرت ذات التحالفات القبلية والمناطقية التي تشكّلت في أحداث  2014. إذ انطلقت قوات تتبع لقيادة الجيش الّذي يقوده حفتر من قواعدها نحو طرابلس مدعومة بشكل أساسي من قوات من شرق ليبيا بالإضافة إلى قوات من المنطقة الغربية وبشكل أساسي اللواء التاسع – ترهونة وقوات متحالفة معها من مدن مختلفة من الغرب الليبي مثل صبراته وصرمان في مقابل تشكيلات مسلحة تتبع مدن أخرى في الغرب الليبي وتتبع القيادات العسكرية التابعة لحكومة الوفاق برئاسة فايز السراج.

من خلال هذا السرد المختصر، حاولت هذه الورقة إلقاء بعض الضوء على حالة الاصطفاف المناطقي والقبلي والجهوي خلف القوات المتحاربة والّذي يعبرّ عن طبيعة خاصة جداً للمجتمع اللليبي، وهي طبيعة بنيوية لا يمكن التغافل عنها في بناء أي تصوّر لحل مستدام في ليبيا. بكل تأكيد فإن هذا الاصطفاف له امتدادات في التاريخ القريب والبعيد والّذي يعكس حالة تفكك اجتماعي تأخر تشخيصها ومعالجتها.


الخلاصة والنتائج:

  1. بعيداً عن الدوافع المعلنة والشعارات التي يتم توظيفها في المعارك، النظر من الزاوية السوسيولوجية يؤكّد بأن التحالفات القبلية والمناطقية والجهوية تمظهرت في كل مراحل الصراع السياسي والصدام المسلح وأنها من المحركات الأساسية للحرب الأهلية الليبية، بغض النظر عن وجود عوامل أخرى أكثر تأثيراً في حالة الصراع مثل التدخلات الخارجية الصريحة في الشأن الليبي.
  2. أساس الخلاف في ليبيا هو جهوي ومناطقي وقبلي في المقام الأول، وليس خلافاً أيديولوجياً، وتتمحوّر قضايا الخلاف حول محورين أساسيين: الأول وهو المحور الأمني وكيفية تحقيق مبدأ احتكار العنف وإزالة المخاوف لدى كل الأطراف من التعرض لأعمال العنف والانتقام السياسي، المحور الثاني ويتعلّق بتوزيع العوائد النفطية بعيداً عن نظام السلة المركزية التي تحفّز الصراع والمغالبة وعقلية الغنيمة.
  3. إن استنساخ خارطة انتقال سياسي بعد فبراير 2011 من تجارب أخرى من دول الربيع العربي ذات ظروف وملابسات وملامح اجتماعية وسياسية واقتصادية مختلفة -(مثل تونس ومصر)- وافتعال خلافات أيديولوجية بين أفكار سياسية حداثية (بين العلمانيين والإسلاميين مثلاً) طمس حقيقة الخلافات الليبية وكان له آثار مدمّرة على مصير الانتفاضة الليبية التي تحوّلت إلى حرب أهلية.
  4. الإرث المؤسسي الوطني في ليبيا عموماً مفكك وازداد تفككاً بعد انتفاضة فبراير التي عجزت عن تقديم البدائل أو صياغة مشروع وطني له ملامح اقتصادية واضحة تعكس مفهوم الأمة الواحدة التي تمتلك من الأسباب والمصالح المشتركة للبقاء معاً.
  5. فشل جهود البعثة الأممية في تحقيق سلام دائم أو مؤقت بسبب تجاهل الخارطة الاجتماعية والجيوسياسية في خارطة البعثة للانتقال السياسي في ليبيا.
  6. انعدام القدرة لدى الأطراف المتدخلة في الشأن الليبي، ومنها الدول الكبرى، على إجراء وساطات ناجحة بين الفرقاء الليبيين بسبب تضارب المصالح الدولية فيما يتعلق بليبيا.

التوصيات:

  1. الخلافات التاريخية والحديثة بين مناطق وأقاليم ليبيا وحقوق المكونات الثقافية والمواجهات والنزاعات المحلية لن تعالج بمحاولة خلق التوازنات بالحرب والصراعات المسلحة، بل عن طريق ميثاق سياسي ينبثق من حوار شفاف حول الشروط التي يتحقق من خلالها وحدة تكاملية وتعايش ناجح بين الأقاليم والمكونات الاجتماعية الليبية عموماً.
  2. مقوّمات الوحدة الوطنية تظل متاحة، ولكن في سبيل ترسيخها تحتاج النخب الليبية إلى تفكير عقلاني واقعي بعيد عن عقلية النفاق السياسي والإغراق في الشعارات على حساب المصالح العامة المشتركة، وأهم الأسباب التي تصنع المصالح العامة المشتركة هو تقدير العامل الجيوسياسي وبالتالي التوسّع في بناء المؤسسات أفقياً، دون احتكار من طرف دون البقية، فلا يمكن أن تكون هناك عجلة تنمية ونهوض وتحديث في ليبيا دون التوسّع في إنشاء مؤسسات للدولة في كل الأقاليم ودعم وتطوير مراكزها الحضرية بدون استثناء.
  3. الطبيعة المركبة لليبيا تستوجب النظر في النظام الاتحادي الّذي تكون السلطات فيه مقسّمة بين الأقاليم أو الولايات أو المحافظات، بما يتيح التوسع في إنشاء مفهوم للدولة وبناء مؤسسات سياسية واقتصادية وتعليمية وثقافية تتوزّع بين أطراف ومراكز البلد، وبما يعكس الغاية التنموية للدولة، دون الاعتماد على ظل سلطة مركزية، ترسّخ لدى كثير ممن يتقلّد أمرها أو يتنافس للوصول إليها أنها غنيمة أو مطيّة للكسب والاحتكار وسبب من أسباب الصراع، خصوصاً في ظل الاقتصاد الريعي للدولة.
  4. توصي هذه الدراسة بإفراد مساحات بحثية مستقلة لبحث دور التدخلات الخارجية وتعزيزها للاصطفافات المحلية القبلية والمناطقية واستمرار حالة الصراع المسلح بين المكونات الاجتماعية كما توصي بإجراء دراسة أخرى مستقلة عن طبيعة الاقتصاد الريعي وتأثيره على الانقسام الاجتماعي والسياسي بين الشرق والغرب على وجه الخصوص.

 

ملاحظات

[1]. على سبيل المثال أحد التعريفات المعاصرة لـــ (الأمة أو الشعب) يرتبط بوحدة الإرادة والرغبة بالعيش المشترك للمكونات الاجتماعية وهو التعريف الّذي دعى إليه إرنست رينون Ernest Renan في مقالته الشهيرة What is a Nation الّذي كتبه في عام 1882 وعرّف من خلاله الأمة بأنها “استفتاء يومي” للتعبير عن رغبة بالعيش بجماعة.

[2]. أ.د محمد نجيب بوطالب. “الصراع القبلي في ليبيا والإنقسام المناطقي”. صحيفة القبس الألكتروني. 31 ديسمبر 2016.

[3]. نفس المصدر السابق.

[4]. يعرّف ريفرز (Rivers) القبيلة في الموسوعة البريطانية (1971) على أنها: “جماعة اجتماعية من نوع بسيط تتكلم لهجة واحدة لها سلطة واحدة تتحد في رد الفعل مثل السلوك في المواقف المتعلقة بالحرب”.

[5]. وليد ماضي. الإتفاق السياسي الليبي: رسم في الهواء. موقع مراسلون correspondents.org. 24 أغسطس 2014.

[6]. فريدريك ويري. “إنهاء الحـــــــرب الأهلـــــــية في ليبيا: التوفـــــيق بين الســـــــياسة وإعــادة بنــــــاء الأمن”. مـــــــركز كارنيــــجي للشـــــــرق الأوســـــــط. 24 سبتمبر 2014.